ما هي الشخصية القوية حقًّا؟

أغلبُ النّاسِ تسمعُهم يردِّدون أنّ لديهم شخصيّةً قويّة، أو يصفون شخصًا آخر بأنّه ذو شخصيّةٍ قويّةٍ لمجرّد أنّه يرفع صوته، أو يتفوّه بألفاظٍ نابية، أو يتصرّف بطريقةٍ غير لائقة. فالبعضُ يظنّ أنّ صاحبَ الشّخصيّة القويّة هو مَن يتحدّث بصوتٍ مرتفع، أو يتصرّف بصرامة، أو يفرض رأيه بالقوّة، أو يسيطر على من حوله. وكما هي حال العديد من المفاهيم الأخرى، لم تسلم فكرة “الشّخصيّة القويّة” من التّشويه أو الفهم الخاطئ؛ فمَا هي الشّخصيّة القويّة حقًّا؟ هل نملك حقًّا شخصيّةً قويّةً أم أنّنا وقِحون نعتقدُ خطأً أنّنا أصحابُ شخصيّةٍ قويّة
في الحقيقة، إنّ الشّخصيّة القويّة أمرٌ محمود، فهي تُعين صاحبها على مُواجهة تحدّيات الحياة اليوميّة بأسلوبٍ صحيح.
وإذا كنتم لا تعرفون تعريفها الدّقيق، فليس في ذلك عيب؛ فالمعرفة بحرٌ واسع. ولكي تدركوا مفهومًا ما وتحيطوا بأبعاده، ينبغي أن تنشغلوا بالمعرفة النّافعة، وأن تتجنّبوا المعرفة السّطحيّة التي لا تُجدي نفعًا.
فِهْرِس المحتويات
تعريف الشخصية القوية
يُمكن تعريف الشّخصيّة القويّة بأنّها الثّباتُ الانفعاليُّ في مواجهة الضّغوط والمواقف الحرجة، والتحلّي بالمرونة عند حدوث أمورٍ غير متوقّعة. ويُمكن أيضًا تعريفها بالقدرة على اتّخاذ القرارات الصّائبة بناءً على معطياتٍ واقعيّة، مقرونةٍ بقيمٍ أخلاقيّةٍ ومبادئ ثابتة لا تتغيّر بتغيّر الظّروف أو المصالح. فصاحبُ الشّخصيّة القويّة لا يُساوم على مبادئه، ولا يبيع ضميره من أجل منصبٍ أو مكسبٍ مؤقّت. إنّه إنسانٌ يُقدّر ذاته من غير أن يُحقّر الآخرين، يُدافع عن رأيه دون أن يقصي آراءهم، ويعرف متى يتكلّم ومتى يصمت، ومتى يُقدِم ومتى يُحجم. فلا يعنيه أن يُعجب النّاس به أو يخافوا منه، بقدر ما يعنيه أن يبقى متصالحًا مع ذاته وصادقًا في مواقفه، واضحًا في رؤيته. لا يصرخُ ليفرض رأيه، بل يُقنع بالحجّة والمنطق. لا ينتقصُ من الآخرينِ كي يعلو شأنه، بل يرفعهم معه إن استطاع، وإن لم يستطع فلا يُعيقهم. فالشّخصيّة القويّة ليست استعراضًا ولا إحراجًا للآخرين، بل اتّزانٌ بين العقل والعاطفة، وبين القوّة والرّحمة، وبين الحزم واللّين. إنّها أن تقول “لا” حين يقول الجميع “نعم”، وأن تصمدَ حين ينهار الكثيرون.
الشّخصيّة القويّة لا تحتاج إلى الضّجيج لإثبات ذاتها؛ بل تظهر قوّتها في لحظات الصّمت، حين تعصف الأزمات ويتحير النّاس في القرارات. عندئذٍ ترى صاحبَ الشّخصيّة القويّة هادئًا وواثقًا وشجاعًا، لا يهتزّ لموقف، ولا يغيّره مديحٌ أو ذمّ. فاسأل نفسك قبل أن تصف نفسكَ بصاحب الشّخصيّة القويّة: هل لا تغيّر مبادئكَ ولو كنتَ وحدك؟ وهل تملك الشّجاعة للاعتراف بخطئك؟ وهل تعامل النّاس باحترامٍ مهما اختلفوا عنك أو اختلفتْ مستوياتهم التّعليميّة وطبقاتهم الاجتماعيّة؟ إن أجبتَ بنعم، فربّما تملك بالفعلِ شخصيّةً قويّة، لا كما يصوّرها البعضُ في مظاهرٍ جوفاءَ خاليةٍ من الرّوح.
هُناك من يستقي تعاريفَ خاطئةً للشّخصيّة القويّة من مُحيطه أو من أناسٍ يثقون بمعرفتهم السّطحيّة؛ فتراهم يعتقدون أنّ الصّوت العالي الشّبيه بصوت الحمار عندما ينهق دليلٌ على الهيبة والقوّة. ويظنّون أنّ الشّخصَ الذي لا يبتسم، ويتحدّثُ بنبرةٍ حادّة، ويستخدم الأوامر هو الأقوى، وأنّ اللّين ضعفٌ، والتّسامح انهزامٌ، والهدوء خضوع. والحقيقة أنّ هذه المفاهيم لا تمتّ إلى القوّة بصلة، بل تدلّ على ضعفٍ داخليٍّ يُغلَّف بصوتٍ مرتفع. فالصّوت العالي غالبًا ما يُخفي عجزًا عن الإقناع بالحكمة والمنطق، وبعضُ من يصرخ لا يفعل ذلك ليُسمع صوته فحسب، بل لإخفاءِ اضطرابٍ داخليٍّ وشعورٍ بالدّونيّة.
أمّا الذي لا يبتسم ويظنّ أنّ عبوسه يمنحه “هيبة”، فهو واهم؛ لأنّ الهيبة الحقيقيّة تُستمدّ من الوقار لا من التّجهّم، ومن الأخلاق لا من الاستعلاء، ومن الاحترام لا من التّرهيب. فالشّخص القويّ حقًّا لا يحتاجُ إلى فرض نفسه على أحد، بل يجعل الآخرين يحترمونه من غير أن يُجبرهم على ذلك. قوّته تكمن في احترامه لذاته أوّلًا وفي احترامه للنّاس ثانيًا. هو ذاك الذي تستطيع أن تختلف معه بلا خوف، وتتحاور معه بلا شعورٍ بالإهانة.
ومن الأخطاء الشّائعة أيضًا الاعتقاد بأنّ الشّخص الذي لا يعترف بالخطأ هو الأقوى؛ فيظنّ أنّ أفكاره صحيحةٌ على الدّوام، وأنّ آراء الآخرين هراءٌ لا قيمة له. فيرون في الاعتراف بالخطأ ضعفًا، وفي مراجعة الذات تراجعًا، وفي التّواضع تقليلًا من الشأن. غير أنّ القوّة الحقيقيّة ليست بعدم ارتكاب الأخطاء، بل بعدم الخجل من الاعتراف بها. القوّة أن تعرف متى تتمسّك بموقفك ومتى تتراجع عندما يتبيّن لك خطؤك، من غير أن تهتزّ ثقتك بنفسك. فالاعتراف بالخطأ لا ينتقصُ من الهيبة، بل يزيدك مصداقيّةً أمام النّاس.
في السّياق نفسه، يظنّ البعض أنّ قوّة الشّخصيّة تكمن في الاستغناء عن العلاقات الإنسانيّة، فيرون الشّخص القويّ مَن يعيشُ وحيدًا، لا يحتاجُ إلى أحدٍ، ولا يثق بأحد. وهذا أيضًا اعتقادٌ سقيم؛ فالقوّة الحقيقيّة تعني أن تكون قادرًا على بناء علاقاتٍ صحيّة من دون أن تذوب فيها، وأن تُحسن الاختيار والتّفاعل، وتعرف متى تقترب ومتى تبتعد، ومتى تسامح ومتى تواجه. كما أنّ من أكثر الأوهام شيوعًا الاعتقادُ بأنّ مَن لا يبدو عليه الحزنُ ولا يتأثّر بالألم ولا ينفعل بأحداث الحياة هو الأقوى، وكأنّ انعدام المشاعر بطولة، والتّجاهل فضيلة، والبرود حكمة! والحقيقة أنّ المشاعرَ ليست ضعفًا، بل علامة حياة، وأنّ مَن يتأثّر ويتعاطف هو في الغالب أكثر إنسانيّةً ونُضجًا.
ويخلط بعضهم بين الشّخصيّة القويّة والشّخصيّة المسيطرة؛ فتراه يسعى لفرض آرائه بالقوّة على أفراد أسرته أو زملائه أو مُجتمعه إن استطاع، ظنًّا منه بأنّ ذلك صورةٌ من القياديّة والحكمة. بينما الواقع أنّ هذا سلوكٌ يدلّ على رغبةٍ مَرَضيّةٍ في الهيمنة، مصدرُها خوفٌ داخليٌّ من فقدان السّيطرة، أو شعورٌ بالنّقص يُحاول تعويضه بالتّسلّط. فالشّخص المسيطر لا يقبل اختلافًا ولا تنوّعًا، ويرى في الرّأي المخالف خطرًا على هيبته الزّائفة.
أمّا الشّخصيّة القويّة حقًّا، فهي التي تسمح للآخرين بأن يكونوا أنفسهم من دون أن ترى في ذلك تهديدًا لها، والتي تعرف كيف تنصت قبل الكلام، وتُقنع بالحجّة لا بالجَبر، وتُدير النّقاش لا أن تفرض القرار.
مكونات الشخصية القوية
بعد أن أدركنا حقيقةَ الشّخصيّة القويّة وفنّدنا التّصوّرات الزّائفة، قد يتساءل البعضُ عن العناصر المكوّنة لهذه الشّخصيّة. وفي الواقع، تتكوّن الشّخصيّة القويّة من عدّة عناصر، من أبرزها:
- الثّبات الانفعالي: القدرةُ على التّحكّم في الانفعالات أمام الضّغوط والمواقف الحرجة، وتجنّب ردود الفعل المتسرّعة أو الاندفاعيّة.
- الثّقة بالنّفس: الإيمان بالقدرات الذّاتيّة، والحفاظ على التّوازن عند التعرّض للمديح أو الانتقاد، بعيدًا عن الغرور.
- التّواضع: مُعاملة الآخرين باحترام، وتقبّل الخطأ عند وقوعه. فالتّواضعُ يُعزّز القيمة الحقيقيّة لصاحبه ولا ينتقص منها.
- القدرة على اتّخاذ القرار: دراسة المعطيات بوعيٍ وتمحيص، ثمّ اختيار الموقف المناسب بشجاعةٍ وبلا تردّدٍ أو تسويف.
- احترام الآخرين: الإصغاء الجيّد والحوار البنّاء، من دون تقليلٍ من شأن أحد، مهما اختلف في الرّأي أو المكانة.
- التّوازن العاطفي: الاعتراف بالمشاعر وإدراك تأثيرها، ولكن من دون السّماح لها بأن تقيّد القرارات أو تخرج عن السّيطرة.
- المرونة: إدراكُ اللّحظة المناسبة للتمسّك بالرّأي أو التّراجع عنه؛ فالتّراجع المدروس حكمة وليس ضعفًا.
- الاستقلاليّة في التّفكير: بناءُ القناعات ذاتيًّا، بعيدًا عن مجاراة الأغلبية لمجرّد كثرتهم أو الانسياق خلفها بلا بصيرة.
صفات الشخصية القوية
هنا قد يتساءل البعضُ، بعد تفكيك التّصوّرات الزّائفة: كيف نصيرُ أصحابَ شخصيّةٍ قويّةٍ بحق؟
في الحقيقة، لبناء شخصيّةٍ متينة ومتّزنة لا تتأثّر بالمتغيّرات، يُمكن اتّباع بعض المبادئ والممارسات، وأبرزها:
- مُواجهة العيوب بشجاعة.
- التّريّث قبل الرّدّ.
- طلب المساعدة عند الحاجة.
- عدم الخجل من الاعتراف بالجهل أو قول “لا أعلم”.
- إدراك أنّ القويّ ليس مَن يُهاجم أو يغضب سريعًا، بل مَن يحكم زمام نفسه عند الاستفزاز.
- التّفريق بين ما يستحقّ الجدال وما لا يستحقّه، وبين ما يستوجب الرّدّ وما يفضَّل تركه.
- القدرة على رفض ما لا يناسبك بأدب من دون جَرح الآخرين.
- عدم التّنازل عن القيم من أجل القبول الاجتماعي.
- عدم إلقاء اللّوم على الآخرين في نتائج اختياراتك.
- الاعتراف بالخطأ، وإصلاحه، وتجنّب تكراره.
- عدم تصديق فكرة لمجرّد شيوعها، ولا رفض فكرة لمجرّد غرابتها.
- عدم اعتبار الرّحمة والحنان وطيبة القلب دليلًا على الضّعف؛ فهي صفاتٌ لا يملكها إلّا الأقوياء.
- هيبة الإنسان لا تُصنع بالصّراخ، بل بالمواقف، ولا تُقاس بالسّيطرة، بل بالثّبات والصّدق والاحترام.
خاتمة
إنّ بناء شخصيّةٍ قويّة بالمعنى الحقيقيّ لا هو بالأمر الهيّن ولا هو بالمستحيل، ولا يتعلّق الأمر بإخفاء المشاعر بقدر ما يتعلّق بالصدق مع النفس والتعامل مع الحياة بعقلٍ متّزن. فالقوّة الحقّة تتجلّى حين يكون هناك انسجامٌ بين الأقوال والأفعال. وأكثر من ادّعوا القوّة في شخصيّتهم في حضرتي كانوا في الواقع هشّين كبيت العنكبوت، لكنّهم جهلوا ذلك بسبب تصوّراتٍ مستمدّةٍ من المسلسلات والأفلام التي غالبًا ما تشوّه المفاهيم لأغراضٍ دراميّة أو تجاريّة. فصورة “الشّخصيّة القويّة” في الأفلام كثيرًا ما تُظهرها في هيئة إنسانٍ متصلّبٍ لا يقبل المساومة، ولا تظهر عليه بوادر الضّعف، وقد تُستغلّ هذه الصّورة لإبراز مظاهر سلبيّة كتعاطي المخدّرات والعراك المستمرّ، ما يجعل صورة “الرّجل السّيّئ” (Bad Boys) رائجةً لدى بعض المراهقين. لكنّ هذه الصّورة، مهما استُهويَت عند البعض خصوصًا المراهقات، تظلّ مشوّهةً وبعيدةً عن واقع القوّة الحقّة.
اكتشاف المزيد من El Gouzi
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.