التحفيز الذاتي: سرّ النجاح حين لا يكون أحد في صفك

في كثيرٍ من الأحيان، ينتابُ الناس حماسٌ جمّ عند مشاهدتهم للفيديوهات التحفيزيّة أو عند مخالطتهم لأشخاصٍ ناجحين، غير أنّ هذا الحماس غالبًا ما يكون عابرًا؛ إذ يتلاشى سريعًا عند العودة إلى رتابة الحياة اليوميّة.
ويعزى ذلك إلى أنّ الحماس وحده لا يكفي لتحقيق النجاح، بل لا بُدّ من التحلّي بالانضباط ومواصلة العمل حتّى في غياب الدافع.
وفي المقابل، يستطيع الساعون إلى تحقيق أهدافهم أن يستثيروا دوافعهم الداخليّة بأنفسهم، وذلك ببناء عاداتٍ يوميّةٍ بسيطة تُعينهم على المضيّ نحو أهدافهم، بدلًا من الاقتصار على مصادر التحفيز الخارجيّة.
كما ينبغي للمرء أن يُذكّر نفسه على الدوام بالأسباب التي تدفعه للسعي لنيل النجاح؛ فلكلِّ إنسانٍ وجهته ومسوّغاته الخاصّة، أي أسبابه الوجيهة: قد تكون رغبةً في الانتقام، أو سعيًا لتحقيق حلمٍ طال انتظاره، أو هربًا من واقعٍ مؤلم، أو حرصًا على ترك بصمةٍ إيجابيّة في هذا العالم.
ومن ثمّ، يتبيّن أنّ الحديث عن التحفيز الذاتي ضرورةٌ حتميّة، لا سيّما في عالمنا المعاصر الذي تتعدّد فيه مصادر التشتّت، وفي أوقاتٍ يغيب فيها الدعم الخارجيّ أو حين تمتلئ الطريق بالعقبات والتحدّيات.
فالاعتماد على التحفيز الذاتي يمدّ الإنسان بالقوّة للاستمرار، حتّى عند الشعور بالإحباط أو الفشل؛ إذ يؤدّي فقدان الدافع الداخليّ إلى التوقّف عن التقدّم، لا لعجزٍ أو قصورٍ، بل لأنّ الإنسان فقد ما يُحرّكه من الداخل. ولهذا، لا ينبغي له انتظار الظروف المثاليّة أو التشجيع الخارجي، بل يجب عليه أن يخلق دافعًا داخليًّا متجدّدًا كلّما واجه تحدّيًا في مساره.
فِهْرِس المحتويات
ما المقصود بالتحفيز الذاتي؟
قد يتساءل البعض عمّا نعنيه بالتحفيز الذاتي؛ وببساطة، هو القوّة الدافعة النابعة من داخل الإنسان، غير المُعتمدة على عوامل خارجيّة عابرة ككلام المٌحيطين أو الظروف المؤقّتة، بل هي القُدرة على مواصلة التقدّم بلا توقّف، من دون الحاجة إلى انتظار التشجيع من الخارج أو الاكتفاء بالحماس اللحظي سريع الزوال.
قد يظنّ البعض أنّ التحفيز الذاتي مجرّد لحظات حماس، وهذا غير صحيح؛ فالتحفيز الذاتي هو المُحافظة على الدافعيّة والتركيز على الهدف بعيدًا عن المُؤثرات الخارجيّة.
هل الالتزام أهم من التحفيز الذاتي؟
قد يرى البعض -عن غير علم- أنّ الالتزام أهمّ من التحفيز الذاتي، وهذا الرأي وإن حمل شيئًا من الصحّة، فإنّ الالتزام وحده لا يُحقّق الغاية ما لم يكن مدعومًا بالتحفيز الذاتي. فبينما يمثّل الالتزام الأساس الذي يرتكز عليه المرء في نجاحه، يأتي التحفيز الذاتي ليمنحه القُدرة على الثبات عند مُواجهة الأوقات الصعبة والتحدّيات، واللحظات التي يشعر فيها بالإحباط.
من دون تحفيز داخلي، قد يمرّ الشخص بفتراتٍ من الركود وفُقدان الدافع بالرغْم من التزامه. هكذا يُكمّل الالتزام والتحفيز الذاتي بعضهما بعضًا، إذ يُوفّر الالتزام إطارًا ثابتًا، في حين يُمدّه التحفيز الذاتي بما يلزمه من طاقة للاستمرار، لا سيّما عند استحضار الأهداف بعيدة المدى أو المنافع الشخصيّة المنشودة.
بعبارةٍ أخرى، التحفيز الذاتي هو العنصر المُكمّل لقوّة الالتزام، وضامن استمرارها في وجه العوائق.
التحفيز الذاتي: فطري أم مكتسب؟
يرى البعض أنّ التحفيز الذاتي خاصيّة فطريّة، والحقيقة أنّه ليس فطريًّا محضًا. فهُناك مَن يمتلك ميولًا فطريّةً تُتيح له إيجاد الدافع الداخلي حتّى في أصعب الأوقات، في حين يعتمد آخرون على مصادر خارجيّة بحثًا عن التشجيع.
والسبب قد يعود إلى ظروف النشأة والتربية والتجارب السابقة؛ فالذين ترعرعوا في بيئات تُشجّع على اعتماد المرء على ذاته قد يتعلّمون بسرعة كيفيّة توليد الدافع الداخلي، في حين قد يتأثّر آخرون بمحيطهم أو بتوقّعات مُجتمعهم وأسرهم، ما يجعلهم يركنون أكثر إلى التحفيز الخارجي. ومع ذلك، فإنّ التحفيز الذاتي بالنسبة إليَّ مُرتبطٌ بنتيجة الهدف؛ فعندما أُدرك ما قد أحصل عليه من ثمار أيّ خطوةٍ أخطوها، أبذل قُصارى جهدي لتحقيق تلك النتائج، لأنّني أشعر أنّ الجهد المبذول يستحقّ العناء.
وتعظُم قوة التحفيز الذاتي كلّما ربط المرء بين عمله والنتائج الإيجابيّة التي قد يحظى بها، ماديّة كانت أم معنويّة. وعليه، لا يعتمد التحفيز الذاتي على الميول الفطري فحسب، بل على مدى تقدير الشخص للهدف وتوقّعه للإنجازات التي سيجنيها.
شوائب حول مفهوم التحفيز الذاتي
حدث كثيرٌ من الالتباس أو التشويش حول مفهوم التحفيز الذاتي، لدى المتحدّثين في مجال تطوير الذات أو الكتّاب فيه؛ فبعضهم يظنّ أنّ الاستماع إلى الفيديوهات التحفيزيّة وسِيَر الناجحين يكفي وحده لبلوغ النجاح والاستمرار بلا انقطاع. ولكن الواقع يُثبت أنّ تلك الوسائل تشعل حماسًا عابرًا فحسب، ولا تبني قاعدة راسخة لتحفيز الإنسان. فالتحفيز الذاتيّ لا يقوم على مجرّد كلمات مُلهمة تُلقى حينًا بعد حين، بل على عاداتٍ مُتواصلة والتزامٍ جاد وتذكّرٍ دائم للنتائج المتوخّاة من العمل المُستمرّ. ذلك أنّ البشر، بطبعهم، يميلون إلى ما يُحقّق لهم فوائد ملموسة، وقد تراود بعضهم الرغبة في التخلي عن مبادئه إنْ رأى ذلك تعجيلًا بالنتائج.
وهنا يكمن التحدّي الأكبر في التحفيز الذاتي: المُحافظة على الطريق القويم والقدرة على المثابرة بالرغْم من المغرَيات أو حالات الإحباط.
وفي السياق ذاته، يظهر مَن يدّعي أنّ التفكير الإيجابي أهمّ من التحفيز الذاتي، ويظنّون أنّ مجرّد سيادة الأفكار الإيجابيّة كفيلٌ بتحقيق النجاح. غير أنّ النتيجة على أرض الواقع تُثبت أنّ التفكير الإيجابي جزءٌ من منظومة التحفيز الذاتيّ، لا بديل عنها، إذ لا تُتوَّج الجهود بالنجاح بمجرّد التفكير المتفائل في غياب العمل الدائب. فالتفكير الإيجابي وحده، دون وضع خططٍ متينة وقدرة على الفعل في مواجهة الصعوبات، لا يُثمر نتائج ملموسة.
إنّ التحفيز الذاتي يتطلّب التوفيق بين الإيجابيّة والتخطيط المنطقيّ واتّخاذ القرارات السليمة في أحلك الأوقات. وقد أسرف بعض مُتحدّثي التنمية البشريّة في استبدال الجهد والالتزام بفكرة التفاؤل، فصدّقهم خلقٌ كثير، ثم اصطدموا بالواقع الذي لا يرحم أحدًا؛ إذ إنّ الإنجاز الدائم لا يتأتّى بالرجاء وحده ما دام الإنسان لا يبذل جهدًا. ويذهب آخرون في الاتجاه المُعاكس، فلا يُعوّلون على التحفيز الداخليّ بتاتًا، ظانّين أنّ التشجيع الخارجيّ هو المُحرّك الرئيس لأيّ نجاح.
ولذا تجدهم في حاجة دائمة إلى الإشادة والثناء أو رمزٍ ماديّ ليشعروا بقيمتهم ويواصِلوا العمل، ويجعلهم ذلك عُرضة للانتكاس ما إن ينعدم محفّزهم الخارجيّ. وقد يشعل التحفيز الخارجي الشرارة الأولى حقًّا، لكن التحفيز الذاتي يبقي تلك النار متوهّجة، موجّهًا صاحبها نحو الهدف بغضّ النظر عن العوامل المُحيطة أو الظروف.
عوائق التحفيز الذاتي
يُمثّل التحفيز الذاتي قاعدةً صلبة للنجاح البعيد المدى؛ إذ يضمن مُواصلة الجهد حتّى في أحلك الظروف، واتّخاذ القرارات باستقلاليّة دون الحاجة إلى التشجيع الخارجي.
وللتحفيز الذاتي مزايا عدّة، منها القُدرة على التعامل مع الإحباط والعمل المُستمر بهدف تحقيق نتائج ملموسة، إضافةً إلى تحسين الصحّة النفسيّة وزيادة الإبداع وتأمين القُدرة على التعلّم والتكيّف مع التغيّرات.
ومع ذلك، تظهر في طريق التحفيز الذاتي عقبات قد تُعرقل هذا المسار، منها:
- الكسل: خصوصًا عند وجود أهداف بعيدة المدى أو كبيرة تحتاج إلى وقتٍ طويل؛ فكثيرٌ من الناس يرغبون في نتائج سريعة، ما يُضعف المثابرة.
- الشكّ في الذات: يجعل ضُعف الثقة بالقُدرات الشخصيّة البعض يهجر سعيَهم قبل البَدْء فيه.
- الروتين والملل: يبعث تكرار الأنشطة بلا تغيير على الشعور بالجمود ويُقلّل الدافعيّة.
- الاضطرابات النفسيّة كالقَلَق والاكتئاب: تُؤثّر سلبًا في طاقة الفرد وقُدرته على الاستمرار.
- سوء إدارة الوقت: يُؤدّي إلى تكدّس المهام وتعدّد الأولويّات، فينشأ الارتباك ويضيع التركيز.
- التسويف: وهو العدو الأكبر للتحفيز الذاتي، إذ يُؤجّل الفرد عمله ويُقنع نفسه بمسوّغات أو مبرّرات تُرحّل المهمّة إلى وقتٍ لاحق، فيُصبح التأجيل عادةً يصعُب كسرها.
- المشتّتات: مثل الهواتف الذكيّة ومواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ تستهلك ساعاتٍ طويلة وطاقاتٍ ذهنيّة مهمّة، تُؤثّر بصورة ملحوظة في السعي نحو الأهداف.
- تحديد أهدافٍ غير واقعيّة: كتلك التي تفوق إمكانات الشخص وموارده بهدف إرضاء الآخرين أو مُجاراة الناجحين، وتُؤدّي عادةً إلى الإحباط عند عدم تحقّقها.
استراتيجيات التحفيز الذاتي
لمُواجهة هذه العوائق وبناء تحفيزٍ داخليّ راسخ، يُمكن اتّباع عدّة استراتيجيات:
- تحديد أهدافٍ واقعيّة: احرصوا على اختيار أهدافٍ تتناسب مع قدراتكم ومواردكم، ولا تُبالغوا في الطموحات، تفاديًا للشعور المبكّر بالإحباط. ابدأوا بأهدافٍ صغيرة قابلة للتحقيق، ثم تدرّجوا نحو الأكبر.
- تقسيم الأهداف: قسّموا المهام الكُبرى إلى خطواتٍ يوميّة بسيطة يسهل تنفيذها تدريجيًّا، ما يُعطيكم إحساسًا بإنجازٍ مستمر ويحافظ على حافزكم.
- التركيز على النتائج: تذكّروا دائمًا ما ستحصلون عليه عند تحقيق الهدف؛ فاستحضار المكافآت والفوائد يُعزّز دوافعكم الداخليّة ويُحفّزكم عند مواجهة التحدّيات.
- بناء عاداتٍ يوميّة: ضعوا روتينًا ثابتًا يدعم التزامكم، مثل تخصيص وقتٍ محدّد للقراءة أو مُمارسة الرياضة أو إنجاز مهمّة، كي تغدو هذه العادات جزءًا من نمط حياتكم.
- التغلّب على التسويف: اتّخذوا قراراتٍ سريعة، واحرصوا على البَدْء في المهام بلا تأجيل. صنّفوا الأولويّات والتزموا الجدول الزمني.
- مُراقبة التقدّم بانتظام: قيّموا النتائج دوريًّا واعرفوا ما أنجزتموه وما عليكم تعديله، فالمراجعة المستمرة تُقدّم لكم خارطةً دقيقة لتقدّمكم.
- المكافأة: كافئوا أنفسكم عند اجتياز مراحل أو تحقيق إنجازاتٍ ملموسة؛ فالمكافآت حافزٌ إضافيٌ يعزّز المثابرة.
- تجنّب المشتّتات: ابتعدوا عن مصادر التلهّي مثل الهاتف أو بعض المُمارسات غير الضروريّة، ووفّروا وقتكم وطاقتكم لما هو أهم.
- عدم استعجال النتائج: تذكّروا أنّ الإنجازات الكبيرة تتطلّب وقتًا وجهدًا منتظمًا؛ فالنجاح يُبنى خطوةً خطوة.
- الرفق بالنفس: لا تقسوا على أنفسكم عند الفشل أو التأخّر، بل تعلّموا من الأخطاء واستمرّوا في السعي.
- الحفاظ على الصحّة الجسديّة والعقليّة: مارسوا الرياضة وتناولوا الطعام الصحي، واحرصوا على نيل قسطٍ كافٍ من الراحة، إلى جانب العناية بصحّتكم النفسيّة وتوازُنكم العاطفي.
- المثابرة: تمسّكوا بالعمل المستمرّ بالرغْم من العثرات، فالمثابرة سرّ التقدّم الحقيقي في جميع المجالات.
- الاستفادة من قصص الناجحين: تعلّموا من تجاربهم وعقباتهم وكيف تغلّبوا عليها؛ فهي دروس غنيّة بالخبرة والإلهام.
- تجنّب المُقارنة بالآخرين: لكلٍّ ظروفُه وظروفُها، والمُقارنة الدائمة قد تزرع الإحباط بدل التحفيز.
الخلاصة
إنّ التحفيز الذاتي عنصرٌ محوريّ في تحقيق الأهداف والطموحات، ولا تكتمل قيمته إن لم يقترن بالالتزام والجهد الدؤوب. فبينما يُمثّل الالتزام الإطار الثابت، يأتي التحفيز الذاتي ليضمن الاستمرار بالرغْم من العقبات والمحبّطات.
وقد تعترض الطريق عوائق شتّى من تسويفٍ وكسلٍ وتشتيت، لكن التحفيز الذاتي يبقى رهين قدرتنا على التكيّف مع الصعوبات والتعلّم من الأخطاء والمضيّ قُدمًا نحو الغايات المنشودة. فلا تنتظروا ظروفًا مثاليّة، ولا تسمحوا للعقبات بإيقافكم، بل ثابروا واجتهدوا وتذكّروا دائمًا أنّ كلّ خطوةٍ صغيرة تُقرّبكم من أحلامكم أكثر ممّا تتصوّرون. فتلك هي سنّة النجاح: لكلِّ مجتهدٍ نصيب.
اكتشاف المزيد من El Gouzi
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.