المهارات الوظيفية

التفاؤل والتشاؤم: أيّهما أقرب إلى الواقع؟

غالبًا ما نسمع أنّ التفكير الإيجابي أو التفاؤل مهمّ، وتُروّج له بعض كتب التنمية الذاتيّة والدورات التدريبيّة على أنّه الحلّ لكلّ مشكلة، في حين أنّ التفكير السلبي أو التشاؤم يُصوَّر على أنّه عائق أمام النجاح والتقدّم. لكنّ الواقع أكثر تعقيدًا من هذا التصنيف السطحيّ.

إنّ هذا التصنيف، وإن بدا مُشجّعًا في البداية، يجعل الناس يتبنّون توقّعاتٍ مُضلِّلة ويتغافلون تعقيد الواقع، فيكتفون بالأمنيات دون بذل جهد حقيقي.

ومن المؤسف أنّ مَن يعتمد على التفكير الإيجابي فقط، دون الأخذ بالأسباب أو بذل الجهد، قد يصطدم بالواقع لاحقًا فيشعر بالخيبة وقد يفقد حماسه تمامًا، متوهّمًا أنّ التفاؤل لم ينجح.

وعلى الجانب الآخر، هُناك مَن يستخفّون بالتفكير الإيجابي ويميلون إلى التشاؤم، فيستسلمون قبل القيام بأيّ محاولة، ويرفضون التفكير في حلول بديلة، ويُغفِلون قدرة الإنسان على التعلّم.

في هذا السياق، ينبغي لكلّ شخصٍ أن يفهم الفهمَ الواقعيّ لكلٍّ من التفاؤل والتشاؤم، ويُدرِك دور كلٍّ منهما، بعيدًا عن الاعتماد المطلق على أحدهما وإهمال الآخر أو الانسياق خلف الأوهام والمغالطات المنتشرة في كثيرٍ من كتب التنمية الذاتية والدورات التدريبية التي تقدّم حلولًا أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع.

لكن، قبل المضيّ قدمًا، ينبغي لنا إبراز الفرق بين الشخص المتشائم والشخص المتفائل عن طريق مثالٍ بسيط، ولَكُم أن تستخلصوا التعريفات بأنفسكم:

المتشائم هو من يقول إنّ الإنسان يعجز عن الطيران. والمتفائل هو من يُقِرّ أنّ الإنسان لا يقدر على الطيران، غير أنّه يبحث عن حلولٍ بديلة، حتّى توصّل في نهاية المطاف إلى اختراع الطائرة.

أوهامٌ منتشرة حول التفاؤل والتشاؤم

مثل أيّ مفهومٍ آخر، لم ينجُ التفاؤل والتشاؤم من التحريف أو سوء الفهم. فمثلًا، يُروّج بعض مَن يتحدثون عن “قانون الجذب” الوهمي لفكرة أنّ التفاؤل هو أساس كلّ شيء، وأنّ مجرّد التفكير الإيجابي كافٍ لتحقيق النجاح والسعادة دون حاجةٍ إلى جهد أو تخطيط حقيقي.

يجعل هذا الفهمُ السطحيُّ التفاؤلَ مجرّد وهمٍ يُوفّر راحةً مؤقتة، ويزعم في الوقت نفسه أنّ أدنى درجةٍ من التشاؤم هي السبب الرئيس للفشل؛ كأنّ مُجرّد التفكير في احتمالاتٍ سلبيّة يجلب المصائب.

وهذا تصوّر لا يتوافق مع الواقع؛ إذ إنّ الحذر والتفكير النقدي —الذي قد يُفسَّر أحيانًا على أنّه تشاؤم— عُنصران أساسيّان في اتّخاذ القرارات العقلانيّة وتجنّب المخاطر المحتملة.

وقد عاينتُ بنفسي هذا الخلط عندما كنتُ في العشرينيات من عمري؛ إذ كثيرًا ما نُظِر إليّ بوصفِي متشائمًا أو سلبيًّا لمجرّد أنّني كُنت أُناقش الأمور استنادًا إلى الواقع والحقائق.

ويظهر هذا التصنيفُ المسبق تأثّرَ الناس الشديد بالأفكار السطحيّة حول التفاؤل؛ إذ يُربَط التفكير النقدي سلفًا بالتشاؤم. فالواقعيّةُ ليست تشاؤمًا، بل هي توازنٌ بين الأمل وبين الاستعداد لمُواجهة العقبات.

لكن يا للأسف، في مُجتمعٍ يُفضّل سماع ما يُرضي مشاعره على الحقائق ويتمسّك بالآمال الزائفة والتوقّعات غير الواقعيّة، يُوصم التفكير المنطقي أو الموضوعي بالسوداوية، فقط لأنّه لا ينسجم مع تصوّراتٍ حالمةٍ أو خياليّةٍ لا يدعمها الواقع.

ومع مرور الوقت، اتّضح لي أنّ المشكلة ليست في أسلوبي في التفكير بقدر ما هي في التوقّعات غير الواقعيّة التي يعتنقها كثيرون، مُعتقدين أنّ الحياة أشبه بفيلمٍ رومانسيّ لا بُدّ له أن ينتهي نهايةً سعيدة؛ لأنّهم يُريدون ذلك بشدّة، وليس لأنّ الأمور تجري بهذه الطريقة فعلًا.

هُناك من يرى في التشاؤم عمقًا ثقافيًّا، فيصف كلّ متشائمٍ بأنّه مثقّفٌ وحكيمٌ، في حين يُعامل المتفائلُ بوصفه إنسانًا سطحيًّا أو بسيطًا. ربّما تحمل هذه النَّظْرَة بعض الصحّة في مواقفَ نادرة، لكنّها لا تصلح قاعدةً عامة؛ فالتشاؤم لا يجعل المرء عميقًا تلقائيًا، كما لا يعني التفاؤلُ بالضرورةِ سطحيّة التفكير.

بعض المُتشائمين يملكون فعلًا القدرة على التحليل النقديّ وفهم الواقع بعمقٍ، مثل الفلاسفة الذين شخّصوا مُشكلات المُجتمعات بواقعيّة وكشفوا تناقضاتها دون تجميل، مثل الشاعرٌ والمُفكِّر «أبي العَلاء المَعَرِّي» والفيلسوفَيْ شوبنهاور ونيتشه، أو حتّى الأُدباء الذين عبّروا عن مأساوية الحياة بصدق، كدستويفسكي وكافكا، لكنّ آخرين قد يتشبّثون بالتشاؤم لمجرّد الحصول على صورةٍ ذهنيّةٍ تُوحي بالذكاء والجدّية، دون امتلاك رؤيةٍ منطقيّة أو وعيٍ حقيقي. يمزجون بين النقد الواقعي والرغبة في نفي أيّ أملٍ في التغيير، ظنًّا منهم أنّ هذا يثبت عُمقهم الفكري.

المُشكلة إذن ليست في التفاؤل أو التشاؤم بحدّ ذاتهما، بل في كيفيّة استخدامهما. فالعمق الحقيقي يكمن في القدرة على الموازنة بين رؤية الواقع كما هو والإيمان بقدرة الإنسان على التطوير والتغيير.

هُناك أشخاصٌ يعتمدون مبدأ “الكلّ أو لا شيء”، فتراهم إمّا غارقين في تفاؤل مُفرطٍ يجعلهم يعيشون في عالَمٍ ورديٍّ لا يعترف بالعقبات، أو في تشاؤمٍ حادٍّ لا يثقون فيه بأحدٍ ويرون العالَم بمنظورٍ واحدٍ لا يقبل الحلول الوسطى. هؤلاء لا يعترفون بأنّ الحقيقة غالبًا ما تقع ما بين التفاؤل والتشاؤم. وحين يصطدم المتفائل المفرط بقوّة الواقع، ينقلب إلى النقيض، فيفقد الثقة بكلّ شيء، ويرى العالَم كما لو أنّه مكانٌ مظلم لا أمل فيه، فيتسلّل إليه التشاؤم تدريجيّا ويُغرقه في حالةٍ من اللامبالاة.

قد تحرم هذه العقليّةُ المتطرّفة صاحبها من المرونة في التكيّف مع تقلّبات الحياة؛ لأنّها لا ترى الأمور إلّا أبيض أو أسود.

أمّا الشخص الناضج الحكيم، فيُدرك أنّ التفاؤل الواقعي لا يعني الإنكار، وأنّ التشاؤم الحذر لا يعني الاستسلام، بل يُمثّلان توازنًا بين الأمل والاستعداد لكافّة الاحتمالات.

المعنى الواقعيّ للتفاؤل والمعنى الواقعيّ للتشاؤم

بعد عرض الأوهام والمغالطات حول التشاؤم والتفاؤل، قد يُطرح السؤال التالي: ما التفاؤل الواقعي؟ إنّه إيمانُ الإنسان بقدراته، وإدراكه أنّ النتائج تُحصد بما يُبذل من جهد، مع وعيه بأنّ طريقه قد تعترضه عقباتٌ وتحدّيات، وأنّ النجاح ليس محضَ حظٍّ أو تفكيرٍ إيجابيٍّ فقط، بل ثمرةُ عملٍ دؤوبٍ وتخطيطٍ سليمٍ واستعدادٍ لمواجهة الصعاب.

لا يعني التفاؤلُ الواقعي تجاهل المشكلات أو التهوين منها، بل إدراك طبيعة الحياة بما فيها من تعقيد، والاستعداد لتخطّي العراقيل بدلًا من الاستسلام لها أو إنكارها. فالشخصُ المتفائل الواقعي لا يفترض أنّ كلّ الأمور ستكون مثاليّة، لكنّه لا يستسلم للتشاؤم أو الإحباط عند أوّل عقبة. فمثلًا، حين يشرع في تعلّم لغةٍ جديدة، لا يتوقّعُ أنّه سيتقنها بلمح البصر بمجرّد التفكير الإيجابيّ، بل يُدرك أنّ اكتساب المهارة يحتاج وقتًا وممارسةً مستمرّة،

وقد تُواجهه صعوباتٌ في النطق أو القواعد، لكنّه لا يسمح لتلك العوائق بأن تُثنيه عن التقدّم.

وبالمثل في شتّى مجالات الحياة، يوقن أنّ الطريق إلى النجاح قد يكون مليئًا بالتحدّيات، غير أنّها ليست عذرًا للاستسلام، بل فرصةٌ لتطوير الذات والاستمرار في المحاولة.

وعلى الجانب الآخر، فإنّ التشاؤم الواقعي ـ إن صَحّ التعبير ـ يدفعنا إلى النظر إلى المستقبل بحذر، مع استشراف المشكلات المتوقعة قبل حدوثها.

لا يعني التشاؤمُ الواقعي الغرقَ في اليأس، بل تشخيص المشكلات المحتملة واتّخاذ التدابير الكفيلة بالتعامل معها. إنّه أقرب إلى “العين الناقدة” التي تدعونا إلى إعداد خططٍ بديلةٍ وخياراتٍ متعدّدة. فعلى سبيل المثال، إذا أراد أحدهم تَعَلُّم لغةٍ جديدة، فلن يفترض أنّه سيفشل فقط لأنّها صعبة، لكنّه أيضًا لن يبالغ في تقدير قدراته بحيث يظن أنّه سيُتقنها من دون بذل الجهد اللازم.

وعوضًا عن ذلك، سيضع في حسبانه ما قد يعترضه من صعوبات، مثل اختلاف بنية اللغة أو تركيبها عن لغته الأمّ، أو حاجته إلى وقتٍ أطول لاكتساب الطلاقة، ثمّ يتّخذ خطواتٍ عمليّةٍ لمواجهتها، كاختيار طريقة التعلّم المناسبة، وإعداد جدول دراسةٍ منتظمٍ، وتحليل الأخطاء لتلافي تكرارها.

يحمي هذا التشاؤمُ الواقعيُّ الإنسانَ من الوقوع في فخّ التوقّعات غير الحقيقيّة، سواء كانت مفرطةً في التفاؤل أو مفرطةً في التشاؤم؛ فالتفاؤلُ المغالي فيه قد يُغفِل صاحبه عن المخاطر المحتملة، والتشاؤمُ المُبالغ فيه قد يمنعه من التقدّم ويقود إلى الاستسلام قبل المحاولة.

أمّا الاعتدالُ بينهما فيسمح للإنسان بالمضيّ قدمًا بثقة، مع إبقاء قدمه على أرض الواقع؛ يرجو الأفضل لكنّه مُستعدّ للأسوأ.

كيف نوازن بين التفاؤل والتشاؤم؟

بعد إدراك أهميّة التفاؤل والتشاؤم، نعرض فيمَا يلي بعض الإرشادات للموازنة بينهما:

  1. الاعتماد على البيانات والتحليل الموضوعي: قبل اتّخاذ أيّ قرار، احرصوا على جمع المعلومات الكافية وتحليلها بعناية. فإذا أردتم الانتقال إلى مدينةٍ أخرى، مثلًا، اطّلعوا على تكاليف المعيشة والفرص الوظيفيّة ومدى توفّر الخِدْمَات العامّة والمناخ وثقافة المجتمع، ثمّ قارنوا الإيجابيّات والسلبيّات لاتّخاذ القرار الأنسب.
  2. تحديد أهداف واقعيّة: تجنّبوا الوقوع في فخّ التفاؤل أو التشاؤم غير الواقعي، وذلك بإرساء أهدافٍ تتوافق مع إمكاناتكم ومواردِكم المتاحة. ينبغي لهذه الأهداف أن تكون قابلةً للتحقيق، بحيث لا تُؤدّي بكم إلى إحباطٍ لاحقٍ أو فشلٍ محتوم.
  3. التعامل مع الانتكاسات بوصفها فرصًا للنمو: فالانتكاساتُ جُزءٌ طبيعيٌّ من مسار النجاح؛ إذ تُتيح لنا اكتشاف نِقَاط الضعف والعمل على تحسينها.
  4. التقبّل الواعي للمشاعر السلبيّة: لا تتهرّبوا من المشاعر السلبيّة؛ فهي جزءٌ لا يتجزّأ من التجربة الإنسانيّة. المهمّ هو كيفيّة التعامل معها والاستفادة منها في تقوية جوانب الضعف.
  5. الواقعيّة في الأحلام: الحلمُ أمرٌ مشروعٌ وضروريٌّ للتحفيز، لكن لا ينبغي أن يتجاوز حدودَ ما يُمكن السعيُ إليه فعلًا بخطواتٍ عمليّةٍ مدروسة.
  6. الاستفادة من التفاؤل والتشاؤم معًا: وظّفوا التفاؤلَ في التحفيز نحو الأهداف والإنجاز، واستعينوا بالتشاؤم الواقعيّ لتقدير المخاطر والاستعداد لها دون إفراطٍ في الاحتراس يُؤدّي إلى العجز أو الاستسلام.

الخلاصة

يتبيّن ممّا سبق أنّ لكلٍّ من التفاؤل والتشاؤم دورًا مهمًّا في حياتنا، شريطة أن نُحسن توظيفهما. فالتفاؤل ـ إذا استند إلى الأسباب الموضوعيّة والعمل الدؤوب ـ يمنحنا الحافز للتحقيق والإنجاز، لكنّه قد يُصيبنا بخيبة أملٍ إن بُني على تصوّراتٍ حالمةٍ لا تمتّ إلى الواقع بصلة.

أمّا التشاؤم، فإذا اتّخذ وجهًا واقعيًّا، فهو يحثّنا على الحذر والتفكير المُسبق؛ لكنّه قد يتحوّل إلى عائقٍ يمنعنا من المجازفة الإيجابيّة إذا بالغنا في الانسحاب أو الاستسلام.

والشخصُ الحكيم هو الذي يستطيع التمييز بين التفاؤل الحالم والتفاؤل الواقعي، وبين التشاؤم البنّاء والتشاؤم الهدّام.

إنّ النجاح يتطلّب منّا توازنًا دقيقًا بين الأمل والاستعداد للأسوأ، وبين الحلم والعمل الدؤوب لتحويله إلى حقيقة، وبين تقبّل سلبيّات الواقع وطموح إصلاحه.

بهذا التوازن يكتسب الإنسان المرونةَ اللازمة للنجاح، فيستفيد من الأمل والتفاؤل لتحريك طموحه، وفي الوقت نفسه يستأنس بالتشاؤم الواقعيّ للتهيّؤ والاستعداد للطوارئ، فيصير قادرًا على تعديل مساره بما ينسجم مع واقعه وتجاربه.


اكتشاف المزيد من El Gouzi

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى